السبت

إيغورستان .. بلقان أوروبا

فرضت الأحداث الأخيرة التى تعرض لها المسلمون فى إقليم " شينغ يانغ " الصينى نفسها على الساحة الإعلامية فى الفترة الأخيرة ، فقد كان حجمها و ظروفها محل توقف و متابعة الكثيرين على الرغم من أن ساحة الإقليم لم تخل من اضطرابات عنيفة تنشب بين أقلية الإيغور و حكومة الإقليم من وقت لآخر.
تشبه القضية الإيغورية فى كثير من أبعادها قضية مسلمى البلقان بعد انهيار النظم الشيوعية فى التسعينات كل من ألبانيا و يوغوسلافيا ، فالقواسم المشتركة بين الفريقين عديدة منها أن أصول الفريقين ترجع الى جذور تركية فى أغلبيتهم و لذلك فإن مسمى " التركستان الشرقيين " يعتبر أكثر استخداما لدى مسلمى الصين من مسمى الإيغور ، كما أن الوجود الإسلامى فى الصين شأنه شأن الوجود الإسلامى فى البلقان كان أساسه تمدد الإمبراطوريات التركية المتعاقبة شرقا و غربا ، بالاضافة إلى أن أكثر مظالم " التركستان " الطائفية وقعت فى ظل الحكم الشيوعى الذى انتهى فى البلقان و بقيت آثاره واضحة .
تدعى الصين إن إقليم شينغيانغ أصبح جزءا من الأراضي الصينية قبل الميلاد بستين عاما وإن الإقليم لم يخرج عن سيطرة بكين رغم فترة استقلال قصيرة امتدت من عام 1838 حتى تولت الشيوعية الحكم في بكين عام 1949 بينما تؤكد المنظمات الإيغورية أن الدولة المستقلة استمرت في شينغيانغ حتى عام 1759 عندما غزته جيوش الإمبراطورية الصينية.


و على أى حال فقد تمتع الشعب الإيغورى فى إقليم شينغيانغ على مر العصور بالكثير من الاستقلالية ، لكنه تعرض سأنه شأن باقى الأقليات الدينية و العرقية فى الصين لإجراءات كان من شأنها السحق الثقافى و الدينى إبان استلام الشيوعيين مقاليد الحكم ، فقد قام النظام فى إطار سعيه لتذويب الفروق العقائدية و العرقية بإحلال مجموعات من عرقية " الهان " فى اقليم " شينغ يانغ " مما نال من التفرد الايغورى فى الإقليم ذى الثروة المعدنية الغنية و ، و كنتيجة لذلك قام الكثيرون بالهجرة إلى تركيا وإيران والمملكة العربية السعودية وبعض الدول الإسلامية في جنوب شرقي قارة آسيا مما جعل نسبة المسلمين تنخفض إلى 70%
شهدت مرحلة الثمانينات و التسعينات استهدافا حاد من قبل سلطات الحزب الشيوعى ــ الهيئة الحاكمة فى الصين ــ للظاهرة الإسلامية ، ففى نشرة رسمية أصدرها المكتب الإعلامي للحزب الشيوعي لتركستان تدعى "إعلام سينغيانغ" العدد 91 لعام 1995 حذر الحزب مما سماه " صحوة المسلمين " ، و كان أهم ما جاء ضمن سطورها : ( في السنوات الأخيرة زادت صحوة المسلمين الدينية ، فزاد عدد المساجد من 14114 مسجداً قبل الثورة الثقافية (نظام طبقه الشيوعيون في عام 1962) إلى 22 ألف و940 مسجداً . كما زاد عدد الحجاج لأكثر من أربعة آلاف حاج سنوياً ، وانتشرت المدارس الدينية ، وحلقات تحفيظ القرآن الكريم التي أقبل عليها الأطفال ، كما فتحت مدارس خاصة للبنات ، مما أدى إلى تزايد إقبال الشباب والنساء على المساجد ، حتى إن بعض المساجد في خوتن ، وكاشغر خصصت أماكن للنساء ، وأصبح بعضهن يرتدين الحجاب ) ... انتهى
بداية من العام 96 أخذت الحكومة فى تكثيف مكافحتها للإيغور الذين رأت فيهم مشروع انفصاليين ، ويذكر المحللون الأجانب أن الصين أغلقت منذ ذلك الحين مئات المساجد ومدارس تحفيظ القرآن في شينغيانغ حيث يقر المسؤولون بأن المساجد السرية ازدهرت ، لكن منحنى الاستهداف قد أخذ فى الارتفاع بعد أحاث الحادى عشر من سبتمبر ، حيث قامت الصين بتأييد الولايات المتحدة فى حربها على ما سمته الإرهاب فى خطوة رأى الكثيرون أن الهدف من ورائها كان اضفاء شرعية على قمع الحكومة لنشطاء المعارضة فى الإقليم ، و بالفعل أخذت الحكومة تشدد القيود القائمة على الإيغور منذ مدة طويلة مستخدمة أساليب متزايدة فى القسوة لسحق الثقافية المحلية للسكان والقضاء عليها على غرار ما يتبع مع أهل إقليم التبت .
أخذت الإضطرابات بين المسلمين و السلطات تتعاظم و تطفو على الساحة الإعلامية متخذة أبعادا إقليمية و دولية ، ففى العام 2001 قتل ستة متظاهرين مسلمين فى صدامات مع قوات الأمن حيث فتحت الشرطة النار على ألفي متظاهر مسلم قدموا من مقاطعة مينغسن لمساندة المسلمين في يانغسين، و مما زاد من حدة ردود الأفعال أن المكتب الإعلامي بمجلس الوزراء الصيني قام بالقاء التبعة على المعارضة مدعيا أن عدة مئات من الإيغور قد تلقوا تدريبات عسكرية في معسكرات تابعة لتنظيم القاعدة بأفغانستان ، فى العام 2004 تكررت نفس الاضطرابات عندما قامت السلطات فى إقليم بتقييد وتحديد منح تأشيرات الحج للمسلمين .
الإيغوريون الآن يعيشون حالة من الحيرة بين الداخل الذى يرفض كل محاولاتهم للتعبير عن ذاتهم و يعتبرهم مشروع انفصاليين و بين الخارج الذى يتجاهل قضيتهم و يعدها فى الصف الثالث إسلاميا ، و هم على الجانبين لا يستطيعون تحريك دفة الأمور فى اتجاه قضيتهم ، فرغم ثقلهم التواجدى الذى يكمن فى التعداد الذى يصل إلى 20 مليون نسمة و التمركز الإقليمى الذى يقتصر تقريبا على إقليم "شينغ يانغ " ، فضلا عن التمايز العرقى الذى يزيد كلما اتجهنا غربا ، إلا أن هناك عقبات تقف فى طريق وصولهم إلى حل قضيتهم ، فإحكام السلطة المركزية قبضتها على الأقاليم و عدم وجود قيادة تركستانية محددة و موحدة الأهداف و عدم وجود سقف موحد للمطالب التى تتوزع بين الانصاف الداخلى و بين الانفصال عن الدولة المركزية ، فضلا عن خفوت أو غياب الأطروحة الاسلامية التى تمايز الأقليتين الشيشانية و الكشميرية عن أنظمتهما السياسية فى الهند و روسيا و التى تعد العامل الرئيسى للتعبئة الانفصالية و عدم وضوح معالمها بالنسبة للإيغور مقارنة بالنموذجين الكشميرى و الشيشانى كل ذلك يجعل من فكرة السعى الانفصالى مخاطرة غير محسوبة .
من ناحية أخرى فإن فكرة الانصاف الداخلى تعد بعيدة المنال ــ الآن على الأقل ــ لافتقاد الإيغور " الخارج " الذى يمكنهم الاستقواء به داخليا ، فمنظمة المؤتمر الإسلامى التى تعد أكبر تجمع إسلامى تعبر فى آدائها و مواقفها عن منظمة مجتمع مدنى أكثر من منظمة ضغط سياسى و دولى ، كما أن تركيا التى تعتبر الخلفية العرقية و التاريخية للإيغور لن تستطيع بمفردها التحرك إقليميا و دوليا لرفع المظالم و وقف الانتهاكات خاصة و أن لديها طموحات فى الانضمام إلى دول الاتحاد الأوروبى مما يجعلها تخفف من نشاطها على الساحة الإسلامية ، أما الأقليات الإيغورية فى المهجر فمازالت لم تتعد مرحلة التعبئة الإعلامية المرهونة بنشوب الأزمات و جمع التبرعات على نطاق ضيق ، لكن و بغض النظر عن تلك الظروف و المعطيات التى لا تصب فى صالح القضية فإن هناك من يرى ــ و منهم كاتب هذه السطور ــ أن الدول الاسلامية تستطيع ممارسة دور ضاغط على حكومة الصين عبر التلويح بالتقليل من حجم التبادل التجارى معها ، و يرى محللون أن هذا هو الحل الأنجح ــ الآن على الأقل ــ إذ أن الاقتصاد الصينى يعتمد بشكل كبير على الطاقة الاستيعابية للأسواق العربية و الاسلامية مما يتيح لصناع القرار فى الدول الإسلامية ــ إن أرادوا لتدخل ــ أن يمارسوا دورا ضاغطا عبر التلويح بالتقليل من حجم التبادل التاجرى بينها و بين الصين ، و لعل هذا هو الإجراء الوحيد الممكن و الذى لا تطمح المنظمات الايغورية من البلاد العربية و الإسلامية إلى أبعد منه حاليا على الأقل .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق