السبت

المئوية الثانية على ميلاد داروين


لم تخلف نظرية علمية على مدار القرنين التاسع عشر و العشرين كما من الجدال و النقاش كذلك الكم الذى خلفته نظرية ( النشوء و الارتقاء ) لعالم الأحياء الانلجيزى تشارلز داروين ، و السبب أن البعد الفلسفى الذى حملته النظرية و الذى يتناول فكرة أصل الإنسان قد أثار جدلا عظيما بين دعاة المادية الذين رأوا فيها تكئة علمية لفكرتهم حول الفلسفة المادية للحياة و التفسير المادى لحركة التاريخ و بين المؤمنين الذين راعهم أن تنفى النظرية أهم مسلمات العقائد السماوية و الأرضية و هى فكرة الخلق ، و فيما انطلق الفريق الأول ينظر لها و يبنى عليها أطروحاته فى الاقتصاد و الفلسفة و علم النفس و الاجتماع ، راح الفريق الثانى يهاجمها و يحاول تفنيدها بكل ما أوتى من قوة معتمدا على أنها لم تقدم دليلا علميا راسخا يثبتها أو ينقض نظرية " الخلق " التى وردت فى جميع الكتب المقدسة .
تتفق نظريتى " التطور " أو النشوء و الارتقاء " مع نظرية الخلق الإلهى على أن الانسان تكون من مادة ميتة ، و أن خروج الحى من الميت و خروج الميت من الحى هو حقيقة ، لكن داروين الذى تحتفل الدوائر العلمية الآن فى الغرب بالذكرى المئوية الثانية لميلاده و المائة و الخمسين لميلاد نظريته رأى وفق كتابه " أصل الأنواع" 1859م الذى ضمنه نظريته أن الكائنات نشأت من خلية واحدة ، و أن هذه الخلية انقسمت لعدد من الخلايا وتطورت نتيجة لعدد من العوامل البيئية والمناخية وبدأت تتطور وتتعدد خلاياها حتى تكونت النباتات والحشرات والحيوانات والإنسان ، و ضرب مثلا على نشوء كائنات حية من مادة ميتة بالديدان التى تظهر حول قطعة من اللحم موضوعة فى إناء محكم الإغلاق ، و ضرب مثلا على فكرة الارتقاء أو التطور بالزرافة التى كانت ذات عنق قصير و مع ارتفاع الأشجار و استحالة وصول فمها إليها دأبت على مد عنقها مما أكسبها طولا ورثته الأجيال المتعاقبة على حد زعمه .
وبرغم النقد المنطقي الذى وجه للنظرية منذ ميلادها إلا أنها وجدت رواجا هائلا لم يتوقف عند نفود نسخ كتاب " أصل الأنواع " الألف ومائتان وخمسون من الطبعة الأولى في اليوم الأول لصدوره ، و لم يمر وقت طويل حتى أصبحت " التطور " هى المرجع الرئيسى الذى بنى عليه منظرى المادية من أمثال ماركس و إنجلز و فرويد تصوراتهم .
لكن التأثير الأكبر الذى خلفته النظرية لم يتوقف عند حد التنظير المادى ، إذ أن فكرة " الارتقاء " التى تمثل الشق الثانى منها قد خلفت نزعات عنصرية تؤمن بتفوق جنس على آخر ، فانطلاقا من المسلمة الداروينية التى ترى أن البشر يتسلسلون بحسب قربهم لأصلهم الحيواني في ست عشرة مرتبة يأتي الأوربيون (البيض) فى قمتها و يقع الزنوج والهنود ثم الملايو و العرب و اليهود في أسفلها قام بعض المؤرخين و البيولوجيين من أمثال فريدريك نيتشة و فرانسيس جالتون بترسيخ فكرهم العنصرى، فقد دعا فرانسيس جالتون من خلال نظريته السماه بـ " اليوجينا " أو " الانتخاب الاصطناعى الى الحد من نسل الافارقة و الاسيويين و الأغبياء و معتادى الإجرام بينما يسمح للبيض الذين من المفروض أنهم يمثلون صفات الذكاء و القوة و الخير بزيادة نسلهم ، أما المؤرخ الألمانى فريدريك نيتشة فقد تطرف أكثر من صاحبه ، حيث رأى ان الإنسان هو المرحلة الوسط بين القرد و السوبر مان و أنه كما تطور القرد إلى إنسان فى القدم فإن من المنتظر إن يتطور الإنسان إلى سوبر إنسان فقط إذا ما سمح له بالعيش فى ظل قانون الغاب الذى سيسمح للأقوياء فقط بالبقاء .
بالطبع لم يكن من الغريب أن تنشأ كيانات سياسية و أحزاب تعتنق هذا التصور ، ففى إيطاليا و ألمانيا قامت الفاشية و النازية بترتيب الشعوب و السلالات فى سلسلة شبيهة إن لم تكن مطابقة لسلسلة داروين ، و قام نيتشة بإهداء كتابه حول الفاشية إلى كل من موسولينى و هتلر اللذين أقاما حروبهما الدموية على أساس فكرة " الشعب المتفوق " أو Heren Volk ، أما الشيوعية التى نظرت إلى كتاب داروين على أنه كتابها المقدس فقد انخرطت هى الأخرى فى صراع مع منافسيها منطلقة من نفس المنطلق المادى و لو بتصور آخر ، و قد نظر الكثيرون إلى الصراع بين النازية و الشيوعية على أنه صراع بين يمين و يسار الداروينية .
من ناحية أخرى فإن الحركة الاستعمارية لم تكن بمنأى عن مضمون النظرية و ما ترتب عليه ، فاليوجينا المشاراليها سلفا وجدت صدى واسعا لدى القوى الاستعمارية التى كانت فى حاجة إلى نظرية علمية تمنح ممارساتها نوعا من التبرير العلمى ، و قد أكسبت اليوجينا تلك القوى قدرا من الأريحية فى ممارساتها العدوانية و التوسعية و هو ما بدا واضحا فى مستعمرات أفريقيا و آسيا و الولايات المتحدة و الجزائر .
فى الشرق كان مضمون النظرية صادما للاوساط الثقافية ، إلا أنها نتيجة للمناخ الليبرالى المنفتح وجدت لها أنصارا و متحمسين ، فقد أخذ المفكر اللبنانى شبلى شميل فى الدعوة لها من خلال المؤلفات و الدوريات ، و قد أدى ذلك الى سجال فكري مستعر و معارك رد فيها المفكر جمال الدين الأفغانى عليه ، لكن و برغم الردود فإن هذه الدعوة قد أثمرت عن نشأة فريق سماه الأفغانى بالدهريين كان من أهم رموزه سلامة موسى و اسماعيل مظهر و منصور فهمى و غيرهم ، و كنتيجة لهذه السجالات نشأ جيل جديد عاش نفس التوترات عبر عنه الأديب نجيب محفوظ فى روايته ــ قصر الشوق ــ فى حوار بين كمال ممثلا للقوى التنويرية و والده ممثلا للقوى المحافظة حول اصل الإنسان وانتمائه الحيوانى .
على الصعيد الآخر أقر كل من موسى و شميل بتفوق الجنس الأبيض ، و لذلك فإن سلامة موسى دعى متأثرا بنيتشة إلى ما يسمى بالسوبر مان ، و قدم كتابه مقدمة السوبر مان الذى دعا فيه الى أن يتزوج المصريون من أجنبيات منطلقا من نفس الأفكار العنصرية ، أما باقى تلامذة شميل باستثناء اسماعيل مظهر فلم يكونوا من دعاة التحرر من الاحتلال الانجليزى انطلاقا من نفس العقدة .
فى المشرق الإسلامى الآن يقتصر الإيمان بنظرية داروين على اليسار الماركسى الذى يفرض على تابعيه الايمان بالمادية الجدلية ، أما باقى القوى فموقفها من النظرية غير ايمانى إن لم يكن عدائى كما هو الحال بالنسبة للتيار الإسلامى ، و قد شهد النصف قرن الماضى عودة كثيرين من معتنقى النظرية و منظريها على رأسهم الدكتور مصطفى محمود صاحب كتاب " رحلتي من الشك إلى الايمان " الذى أكد فيه أن الوحدة بين المخلوقات في الخامة لا اكثر .
فى الغرب الآن مازال الجدال قائما ، حيث تحاول الداروينية تجديد نفسها عبر الاعتماد على مكتشفات علمية جديدة كالطفرة الجينية و إن كانت قد تجاوزت أهم ثوابتها إلى الاعتراف بتعدد أصولً الكائنات و الإقرار بتفرد الإنسان بيولوجياً ، و برغم هذه التطورات إلا أن المؤسسات الدينية الغربية تسعى فى محاولة للظهور بشكل أكثر تسامحا و استنارة إلى التوفيق بين نظريتى التطور و الخلق الإلهى ، و هو أمر بدى واضحا فى اعتذار الكنيسة الانجليزية لداورين العام الماضى و فى تصريح وزير الثقافة في الفاتيكان المطران جيانفرانكو رافاسي بأن " نظرية التطور متوافقة تماما مع الكتاب المقدس، ولا تتعارض إطلاقا مع الإيمان أو اللاهوت المسيحي» ، و على النقيض من هذه المؤسسات يأتى موقف المؤسسات المسلمة فى الغرب ، حيث تقوم الدوائر العلمية الإسلامية انطلاقا من استشعارها خطورة الترويج للنظرية و تبعاته بمحاولة وضع نظرية ذات بناء ديني و علمي تؤصل حياة الكائنات على الأرض ، و فى هذا الصدد قام عالم الأحياء التركى هارون يحيى بوضع كتابه أطلس المخلوقات الذى وزعت المؤسسات الإسلامية منه فى فرنسا آلاف النسخ على المدارس والجامعات الفرنسية عام 2007 محذرة الطلاب من نظرية داروين ، و بين هذا و ذاك تبقى نظرية النشوء و الارتقاء مفردة علمية و ثقافية مثيرة للجدل ، و تظل قنبلة ثقافية موقوته قابلة للإنفجار مخلفة صراعا الفكرى و دمويا إن لم تجد من يصرعها و يحسمها و ينزع فتيلها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق