السبت

الاصلاحيون و المحافظون ... اختلاف أجندات أم انفصام فى الذات ؟؟


خلفت الأزمة السياسية التى وقعت فى ايران الأسابيع الماضية طرحا قويا لمسألة الخلاف بين " المحافظين " و " الاصلاحيين " كما لم تطرح من قبل ، حيث أدى تفاقمها و طغيانها الإعلامى إلى قيام الكثيرين بمحاولة تشخيصها و بيان مداها و أثرها على الواقع و المستجدات السياسية و الاجتماعية فى العالم العربى و الإسلامى بصفة عامة ثم على ما يسمى بظاهرة الإسلامى السياسى بصفة خاصة ، و لكى نخرج فى بحثنا خارج سجن المصطلح الذى لا نكون بالضرورة مؤمنين بمدلوله سنقوم نحن بسجنه داخل قوسين حتى لا يستشكل على القارىء فيظن أننا نميل لتيار دون الآخر
بداية ينبغى أن نؤكد ان ظاهرة الاستقطاب بين " الإصلاحيين " و " المحافظين " ظاهرة لا تقتصر تجلياتها على الساحة السياسية فحسب ، بل تتعداها الى ساحات أخرى كالفكر و الفن و الاعلام و لو أن الاستقطاب السياسى يظل هو الأكثر حضورا على الصعيد الإعلامى . كما أن الظاهرة لا تقتصر على الساحة الإيرانية فحسب بل إن هناك فى العالم العربى و الاسلامى عدة نماذج أرى أنه يمكن القول بأنها تعبر عن الظاهرة . ففى تركيا شهدت نهاية التسعينات استقطابا داخل الحركة الاسلامية انبثق عنه تيار جديد لا يلتزم كثير من مسلمات الحركة الأم ، و الفريقان اذا اسقطنا على حالتهما معايير الخلاف بين " الاصلاحيين " و " المحافظين " ستصبح تسمية " الاصلاحيين " و " المحافظين " جائزة على كل منهما .
أيضا فإن الأحداث التى جدت على السحاتين الأفغانية و الصومالية و ما ترتب عليها فى هذا الصدد من انعكاس للوضع فى ايران و تركيا من حيث انبثاق التيار الإسلامى " المحافظ " من داخل التيار الانفتاحى و ليس العكس ـ طالبان و حركة الشباب المجاهدين ـ ، وتبنى الاتجاه الأول نفس خيارات التيار المحافظ العام من حيث الممانعة العسكرية و الثقافية ثم الأممية الإسلامية و عدم قبول تعددية غير إسلامية خالصة داخل الوطن الواحد . كل ذلك يؤكد سيادة الظاهرة على مستوى العالم الإسلامى .
بالنسبة للتجربة الإيرانية فإنها تتميز عن باقى التجارب بأمرين ، أولهما أن الحركة الدينية فيها تتميز بخلفية مذهبية مغايرة عن باقى الحركات الإسلامية ، مما يجعل ممارساتها العقائدية و السياسية خاصة تجاه التيار الإسلامى السنى فى ايران محل تعليق و ملاحظة بل و إدانة البعض ، الأمر الثانى أن السجالات بين " إصلاحييها " و " محافظيها " أكثر حضورا على الساحة الإعلامية و هو أمر راجع لتصدر التيار الدينى بـ " إصلاحييه " و " محافظيه " الحلبة السياسية منذ الثورة الإيرانية عام 79 .
كانت مرحلة محمد خاتمى (1997 -2005 )هى بداية التمايز و الاصطفاف الحزبى بين الفريقين ، حيث قام الإصلاحيون بتجميع أنفسهم فور نجاح خاتمى داخل إئتلاف ضم قوى اليسار و الوسط و حزبين احدهما مقرب من رفسنجانى و الآخر مقرب من خاتمي الذى خلف توليه انفتاحا ملموسا فى الصحافة و الإعلام و الفن ، و على إثر قيام المحافظين بالشى نفسه بدأت المعارك السياسية و لقانونية و الانتخابية تنشب بين الفريقين ، فالتدابير التى يتخذها رئيس الجمهورية " الاصلاحى " تقابل بالعرقلة من قبل القوى " المحافظة " التى تشكل أغلبية البرلمان ، و الثوابت العامة التى وضعها قادة الثورة الذين كان أغلبهم من " المحافظين " بدا واضحا أن خاتمى " الاصلاحى " ومن وراءه يسعون لتحريكها أو حتى إزالتها ، فمبدأ " ولاية الفقيه " الذى يكرس الزعامة و السلطة بيد القيادة الدينية و مبدأ " تصدير الثورة " الذى يثير عداء دول الجوار و الغرب و يأتى على جزء من الميزانية العامة أصبحا محل انتقاد و استهداف فى الداخل الإيرانى ، هذا بالإضافة إلى القضايا التقليدية التى ساقها بعض " الإصلاحيين " و التى تؤتى الحركات الدينية غالبا من قبها مثل المرأة و الأقليات و حرية التعبير . بالنسبة " للمحافظين " فقد كان ردهم بالتركيز على مغازلة تطلعات و احتياجات الطبقات الفقيرة و المتوسطة ، و هى التى لا تعنيها فكرة الحرية بمفرداتها من حرية زى و تعبير و فكر و غيره مما يدخل ضمن اولويات " الإصلاحيين " ، و هو أمر كان له دوره فى إنجاح مرشح " المحافظين " فى انتخابات 2005 أحمدى نجاد الذى صرح عقب توليه الرئاسة : " إننا لم نقم بالثورة من أجل الديمقراطية "
فى الانتخابات البرلمانية لعام 2008 كان المشهد أكثر وضوحا من حيث التكتلات و الاستهداف المتبادل ، أما الانتخابات الأخيرة التى شهدت النهاية العظمى للاستقطاب بداية بالاتهامات بالفساد قبل النتيجة و بالتزوير بعدها ثم اللجوء للشارع للضغط و استخدام العنف من قبل السلطات التى كان أهما الباسيج سلاح المرشد و ما أسفر عن ذلك من تغيير فى منصبى نائب رئيس الجمهورية و مدير الملف النووى لصالح " الإصلاحيين " .. كل ذلك يطرح تساؤلا مهما مطابقا لعنوان المقال و هو : هل أن هذه التداعيات هى نتيجة منطقية لـ 10 سنوات من الاستقطاب الناتج عن خلاف فى الأجندات و الاولويات ، أم أن جناحا من الحركة الدينية فى إيران خلص أخيرا إلى قناعات جديدة جعلته يسعى لإدراج إيران في سياق ايديولوجيا أخرى غير دينية و لو باستخدام العنف ؟
التساؤل نفسه أو قريب منه يصح اسقاطه على التجربة التركية ، و هى فى هذا الصدد تعد الأكثر ثراءا برغم قلة حضورها و خفوتها الذى يعزى إلى غياب التيار الممثل لـ " المحافظين " بممثليه حزب الرفاة و زعيمه نجم الدين أربكان ، فالطموح لأسلمة الدولة أو على الأقل رفع وصاية العلمانيين ثم الاندماج الإيجابى فى المحيط الإسلامى و مقاومة المؤثرات التغريبية ، كانت الثالوث الأربكانى الأقدس الذى أظهر أردوغان الكفر به و لو بشكل نسبى و ظاهرى ، و هو بذلك يعكس رؤية قريبة من رؤية " إصلاحيي " إيران الذين لا يرون فائدة من صرف حصة من الاقتصاد القومى لتصدير الثورة و دعم حركات المقاومة ، كما لا يرون بأسا من الانفتاح على القيم الثقافية الغربية و استيعاب قوى غير اسلامية داخل الحلبة السياسية و هو ما تمثله العدلة و التنمية باستيعابها قوى قومية ويسارية داخل صفوفها الحزبية . من ناحية أخرى فإن ممارسات العدالة و التنمية تجاه القضايا العربية و الإسلامية و إن كانت محل إعجاب الأوساط الإسلامية إلا أنها تعبر فى نفس الوقت عن انفتاح على جميع الجبهات حتى تلك التى توصف بالمعادية ، و فى هذا الصدد يأتى إبقاء العلاقة مع اسرائيل كثابت استراتيجى تركى و التنسيق مع الولايات المتحدة مع عدم الدخول فى دائرة التبعية كامور تؤكد هذا الانفتاح ، و هى أمور لا ترى فيها القوى " الإصلاحية " فى إيران غضاضة ، خاصة مع مجىء نائب رئيس الجمهورية الإيرانى الجديد الذى صرح سابقا بأن شعب إسرائيل هو شعب صديق لإيران ، لكن يبقى موقف " المحافظين " على النقيض من ذلك في كل من إيران و تركيا ، فأربكان لم يكن يرى فى إسرائيل مجرد شر لابد منه و إنما كان يراها شرا لابد من التخلص منه ، و لربما استطاع انجاز ذلك لو لا الإقصاءات المتكررة التى تعرض لها ، كما أنه كان يناضل من أجل إرساء كثير من المفردات الإسلامية المستهدفة علمانيا كالحجاب و الاندماج الإسلامى ، و قد كان تسامح أردوغان و مجموعته حولها محركا رئيسيا لما يمكن تسميته بحركة الانشقاق .
فى أفغانستان و الصومال ينعكس الوضع بالنسبة للنموذجين السابقين ، ففى إيران و تركيا كان الانشقاق " إصلاحي " عن مجموع " المحافظين " ، أما فى الصومال و أفغانستان حدث العكس حيث خرجت القوى " المحافظة " من عباءة ما يسميه البعض بتيار " الوسطية " ، و رغم لعب أطراف دولية دورا هاما فى ترسيخ وضع النموذجين " المحافظين " فى الصومال و أفغانستان و هما طالبان و حركة الشباب المجاهدين ، إلا أنهما رغم ذلك ظلا يعبران عن قناعات لا تتزعزع برغم انقلاب هذه الأطراف عليهما ، فطالبان بكل ما أحيط بها من استهداف من قبل الجيش الأمريكى و باكستان و تحالف الشمال الذى يلعب هنا دور " الإصلاحيين " ظلت تتشبث بقناعاتها دون تغير ، فتمتنع عن تسليم بن لادن و الظواهرى ، و ترفض خيار التفاوض بأى شكل من الأشكال و على أى وجه من الوجوه ، و ترفض الديمقراطية التعددية كمشروع لنظام مستقبلى إذا ما خرج المحتل أو لم يخرج ، بل إنها ترفض حتى الإشتراك فى نظام تعددى فى ظل سيادة وطنية ، و هى بذلك تتمايز عن باقى الأجنحة الإسلامية التقليدية الموجودة على الساحة الأفغانية منذ الغزو السوفيتى و التى ترفض طالبان كل أطروحاتها و تصوراتها و تستهدفها شأنها شأن القوات الأمريكية . و هى تتطابق فى تلك المواقف مع حركة الشباب المجاهدين التى اعتمدت العمل العسكرى ، منشقة عن المحاكم الإسلامية لتجميدها أنشطتها المسلحة وتحالفها مع المعارضة الصومالية عام 2007 . و هنا تتجلى مفارقة جديرة بالطرح ، ففى ظل النضال السياسى يكون الانشقاق من قبل " الإصلاحيين " على عكس النضال العسكرى الذى يكون الانشقاق فى ظله من قبل " المحافظين " و هو أمر تحقق فى ساحة خامسة هى الساحة العراقية ، مما يثير تساؤلا مهما فى هذا الصدد و مطابقا لعنوان المقال و لو بصيغة مختلفة : ما هو تفسير هذه الحالة من التشظى التى أصابت العمل الإسلامى ؟ هل هو مجرد خلاف على أولويات و مصالح تتعدد حولها وجهات النظر ؟؟ أم هى العملية السياسية التى تصيب بعض الإسلاميين بشىء من البراجماتية فتدفعهم الى مزيد من التنازلات مما يؤدى إلى إنشقاقات ؟؟ أم هى القوى الخارجية و الدولية التى مارست دور التفريق بين المنظمات و الحركات اليسارية فى السابق و تسعى لممارسة الدور نفسه مع أبناء الحركات الإسلامية الآن عبر الاستمالة و الاختراق ؟ أم أنه الخلاف التقليدى داخل المدرسة الواحدة بين أنصار التجديد و أنصار التقليد ؟؟ أعتقد أن المرحلة القادمة كفيلة بالإجابة على هكذا سؤال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق